فصل: مطلب فِيمَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا وَخَالَفَهُ بِلَا دَلِيلٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ

وَأَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ يَا فَتَى عَنْ الْمُنْكَرِ اجْعَلْ فَرْضَ عَيْنٍ تَسْدَدِ ‏(‏وَأَمْرُك‏)‏ أَيُّهَا الْمُتَخَلِّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ ‏,‏ الْمُتَحَقِّقُ بِأَوْصَافِهَا النَّفِيسَةِ الرَّفِيعَةِ ‏,‏ الْمُمْتَثِلُ لِأَوَامِرِهَا السَّدِيدَةِ الْمَنِيعَةِ ‏,‏ الْمُزْدَجِرُ عَنْ زَوَاجِرِهَا الشَّدِيدَةِ الْفَظِيعَةِ ‏.‏

‏(‏بِالْمَعْرُوفِ‏)‏ وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ بِكُلِّ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ الْمُحَسَّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ ‏,‏ وَهُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ ‏,‏ أَيْ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إذَا رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ ‏.‏

وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ ‏,‏ وَالْمُنْكَرُ ضِدُّ ذَلِكَ جَمِيعِهِ ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ ‏"‏ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ ‏"‏ أَيْ مَنْ بَذَلَ مَعْرُوفَهُ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا آتَاهُ اللَّهُ جَزَاءَ مَعْرُوفِهِ فِي الْآخِرَةِ ‏.‏

وَقِيلَ أَرَادَ مَنْ بَذَلَ جَاهَهُ لِأَصْحَابِ الْجَرَائِمِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ الْحُدُودَ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ شَفَّعَهُ اللَّهُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي الْآخِرَةِ ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا مَعْنَاهُ قَالَ‏:‏ يَأْتِي أَصْحَابُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُغْفَرُ لَهُمْ بِمَعْرُوفِهِمْ وَتَبْقَى حَسَنَاتُهُمْ جَامَّةً فَيُعْطُونَهَا لِمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَيُغْفَرُ لَهُ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَجْتَمِعُ لَهُمْ الْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ‏(‏وَالنَّهْيُ‏)‏ وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْرِ ‏.‏

فَمِنْ صِيَغِ الْأَمْرِ‏:‏ أَقِمْ الصَّلَاةَ ‏,‏ صُمْ رَمَضَانَ ‏,‏ اسْتَعْمِلْ الْخَيْرَاتِ ‏,‏ أَدِّ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ ‏.‏

وَمِنْ صِيَغِ النَّهْيِ‏:‏ لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ ‏,‏ لَا تَقْتُلْ النَّفْسَ ‏,‏ لَا تَزْنِ ‏,‏ لَا تَلُطْ ‏,‏ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ‏,‏ لَا تُطْلِقْ بَصَرَك فِي حَرَمِ الْمُسْلِمِينَ ‏,‏ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ ‏(‏يَا فَتَى‏)‏ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الشَّابُّ وَالسَّخِيُّ الْكَرِيمُ جَمْعُهُ فِتْيَانٌ وَفُتُوَّةٌ ‏(‏عَنْ‏)‏ مُقَارَنَةِ الشَّيْءِ ‏(‏الْمُنْكَرِ‏)‏ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ ‏(‏اجْعَلْ‏)‏ أَيْ اعْتَقِدْ وَاِتَّخِذْ ‏(‏فَرْضَ عَيْنٍ‏)‏ أَيْ لَازِمٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ وَالْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ ‏(‏فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏)‏ وَالتَّأْثِيرُ كفرض الْحَبْلُ الْحَجَرَ ‏.‏

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ‏:‏ الْفَرْضُ الْحَزُّ فِي الشَّيْءِ كَالْقَوْسِ مَوْقِعَ الْوَتَرِ ‏.‏

وَالْإِلْزَامُ وَمِنْهُ قوله تعالى ‏{‏سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا‏}‏ أَيْ أَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِهَا ‏.‏

وَالْإِنْزَالُ ‏{‏إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ‏}‏ أَيْ أَنْزَلَهُ عَلَيْك ‏.‏

وَفِي الشَّرْعِ يُرَادِفُ الْوَاجِبَ ‏,‏ فَهُوَ مَا يُذَمُّ شَرْعًا تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مَعَ جَزْمٍ ‏.‏

ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ فَرْضُ عَيْنٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ‏.‏

وَالْقِسْمُ الثَّانِي فَرْضُ كِفَايَةٍ وَيَأْتِي فِي كَلَامِ النَّاظِمِ ‏.‏

وَقَدْ يَصِيرُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَرْضَ عَيْنٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّاظِمُ ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏تَسْدَدِ‏)‏ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ مِنْ قَوْلِهِ اجْعَلْ كَقَوْلِهِ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ‏}‏وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ‏:‏ قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ وَتَقُولُ ائْتِنِي أُكْرِمْك أَيْ أَنْ تَجْعَلَ أَمْرَكَ بِالْمَعْرُوفِ فَرْضَ عَيْنٍ تَسْدَدْ ‏,‏ وَإِنَّمَا حُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ ‏.‏

وَالتَّسْدِيدُ التَّقْوِيمُ وَالتَّوْفِيقُ لِلسَّدَادِ ‏,‏ أَيْ الصَّوَابِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ‏,‏ وَالتَّوْفِيقُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ ‏,‏ وَالْخِذْلَانُ ضِدُّهَا ‏.‏

عَلَى عَالِمٍ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَقُمْ سِوَاهُ مَعَ أَمْنِ عُدْوَانِ مُعْتَدِ ‏(‏عَلَى عَالِمٍ‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِفَرْضَ عَيْنٍ ‏(‏بِالْحَظْرِ‏)‏ أَيْ الْمَنْعِ وَالْحُرْمَةُ ‏,‏ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِعَالِمٍ ‏(‏وَالْفِعْلُ‏)‏ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْفِعْلَ ‏(‏لَمْ يَقُمْ‏)‏ أَيْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِقَامَةِ ‏(‏سِوَاهُ‏)‏ أَيْ غَيْرُ ذَلِكَ بِالْعَالِمِ بِالْحَظْرِ ‏(‏بِهِ‏)‏ أَيْ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ الَّذِي هُوَ الْمُنْكَرُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِيَقُمْ ‏,‏ وَجُمْلَةُ ‏(‏وَالْفِعْلُ لَمْ يَقُمْ بِهِ‏)‏ إلَخْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ ‏,‏ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِي حَقِّهِ فَرْضَ عَيْنٍ حَيْثُ عَلِمَ بِالْحَظْرِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سِوَاهُ ‏,‏ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ‏(‏مَعَ أَمْنٍ‏)‏ مِنْ ضَرَرٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ أَهْلِهِ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَمْنُ ‏(‏عُدْوَانِ مُعْتَدِّ‏)‏ أَيْ ظُلْمُ ظَالِمِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ عَدَا عَلَيْهِ عَدْوًا وَعُدُوًّا وَعَدَاءً وَعُدْوَانًا بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وعُدوى بِالضَّمِّ‏:‏ ظَلَمَهُ كتعدى وَاعْتَدَى ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا ‏,‏ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْهَى عَنْهُ شَرْعًا ‏,‏ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ جَزْمًا وَشَاهَدَهُ وَعَرَفَ مَا يُنْكِرُ وَلَمْ يَخَفْ سَوْطًا وَلَا عَصًى وَلَا أَذًى ‏.‏

زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى‏:‏ يَزِيدُ عَلَى الْمُنْكَرِ أَوْ يُسَاوِيهِ ‏,‏ وَلَا فِتْنَةَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ أَهْلِهِ ‏.‏

وَأَطْلَقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ سُقُوطَهُ بِخَوْفِ الضَّرَرِ وَالْحَبْسِ وَأَخْذِ الْمَالِ ‏,‏ وَإِنَّهُ ظَاهِرٌ ‏.‏

نَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ فِي إسْقَاطِهِ بِالْعَصَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ ‏,‏ وَأَسْقَطَهُ أَيْضًا بِأَخْذِ الْمَالِ الْيَسِيرِ لَا بِالتَّوَهُّمِ ‏.‏

فَلَوْ قِيلَ لَهُ لَا تَأْمُرْ عَلَى فُلَانٍ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُك لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِذَلِكَ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْإِرْشَادِ‏:‏ مِنْ شُرُوطِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ ‏.‏

وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفُنُونِ‏:‏ مِنْ أَعْظَمِ مَنَافِعِ الْإِسْلَامِ وَآكَدِ قَوَاعِدِ الْأَدْيَانِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالتَّنَاصُحُ ‏,‏ فَهَذَا أَشَقُّ مَا يَحْمِلُهُ الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهُ مَقَامُ الرُّسُلِ حَيْثُ يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ الطِّبَاعِ ‏,‏ وَتَنْفِرُ مِنْهُ نُفُوسُ أَهْلِ اللَّذَّاتِ ‏,‏ وَتَمْقُتُهُ أَهْلُ الْخَلَاعَةِ وَهُوَ إحْيَاءٌ لِلسُّنَنِ وَإِمَاتَةٌ لِلْبِدَعِ ‏,‏ إلَى أَنْ قَالَ‏:‏ لَوْ سَكَتَ الْمُحِقُّونَ وَنَطَقَ الْمُبْطِلُونَ لَتَعَوَّدَ النَّشْءُ مَا شَاهَدُوا ‏,‏ وَأَنْكَرُوا مَا لَمْ يُشَاهِدُوا ‏.‏

فَمَتَى رَامَ الْمُتَدَيِّنُ إحْيَاءَ سُنَّةٍ أَنْكَرَهَا النَّاسُ فَظَنُّوهَا بِدْعَةً ‏,‏ وَقَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ ‏,‏ فَالْقَائِمُ بِهَا يُعَدُّ مُبْتَدِعًا وَمُبْدِعًا ‏,‏ كَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا سَاذَجًا ‏,‏ أَوْ كَتَبَ مُصْحَفًا بِلَا زُخْرُفٍ أَوْ صَعِدَ مِنْبَرًا فَلَمْ يَتَسَوَّدْ وَلَمْ يَدُقَّ سَيْفَ مَرَاقِي الْمِنْبَرِ ‏,‏ وَلَمْ يَصْعَدْ عَلَى عَلَمٍ وَلَا مَنَارَةٍ ‏,‏ وَلَا يَنْشُرُ عَلَمًا ‏.‏

فَالْوَيْلُ لَهُ مِنْ مُبْتَدِعٍ عِنْدَهُمْ ‏,‏ أَوْ أَخْرَجَ مَيِّتًا لَهُ بِغَيْرِ صُرَاخٍ وَلَا تَخْرِيقٍ ‏,‏ وَلَا قَرَأَ وَلَا ذَكَرَ صَحَابَةً عَلَى النَّعْشِ وَلَا قَرَابَةً ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

فَالْبِدْعَةُ صَارَتْ مَأْلُوفَةً ‏,‏ وَالسُّنَنُ مُنْكَرَةً غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ ‏,‏ فَيَحْتَاجُ الْآمِرُ النَّاهِي إلَى مَزِيدِ صَبْرٍ وَتَسْلِيمٍ ‏,‏ وَاسْتِعَانَةٍ بِالْعَزِيزِ الْحَلِيمِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ‏:‏ إذَا أَمَرْت أَوْ نَهَيْت فَلَمْ يَنْتَهِ فَلَا تَرْفَعْهُ إلَى السُّلْطَانِ لِيُعْدَى عَلَيْهِ ‏.‏

فَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ خَوْفَ التَّلَفِ ‏,‏ وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ ‏"‏ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ ‏,‏ قِيلَ كَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ‏؟‏ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا ‏.‏

وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ بَعْضِهِمْ وُجُوبَ الْإِنْكَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَغَيْرِهَا ‏.‏

وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَقِيلَ إنْ زَادَ يَعْنِي الْأَذَى عَلَى الْمُنْكَرِ وَجَبَ الْكَفُّ ‏,‏ وَإِنْ تَسَاوَيَا سَقَطَ الْإِنْكَارُ يَعْنِي وُجُوبَهُ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ فَأَمَّا السَّبُّ وَالشَّتْمُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ فِي السُّكُوتِ لِأَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْقَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ ‏.‏

وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ عُذْرٌ لِأَنَّهُ أَذًى ‏,‏ وَلِهَذَا يَكُونُ تَأْدِيبًا وَتَعْزِيزًا ‏,‏ وَقَدْ قَالَ لَهُ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه‏:‏ أَبُو دَاوُدَ يُشْتَمُ ‏,‏ قَالَ يَحْتَمِلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ بَعْدَ ذَلِكَ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏ الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ‏,‏ إنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ ‏,‏ إمَّا تَعْطِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ‏,‏ وَإِمَّا حُصُولُ فِتْنَةٍ وَمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ‏,‏ وَكِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ وَفَسَادٌ ‏.‏

قَالَ تَعَالَى ‏{‏وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ فَمَنْ أَمَرَ وَلَمْ يَصْبِرْ ‏,‏ أَوْ صَبَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ ‏,‏ أَوْ لَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَصْبِرْ ‏,‏ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مَفْسَدَةٌ ‏,‏ وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ فِي أَنْ يَأْمُرَ وَيَصْبِرَ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِنَا وَعُسْرِنَا ‏,‏ وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا ‏,‏ وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا ‏,‏ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ ‏,‏ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا ‏,‏ لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ‏.‏

 مطلب هَلْ يُشْتَرَطُ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ رَجَاءُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ‏؟‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ هَلْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ رَجَاءُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ أَوْ لَا‏؟‏ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه ‏.‏

نَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ الْوُجُوبَ ‏,‏ وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَكْسَهُ ‏.‏

قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ‏:‏ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِنْكَارُ إذَا عَلِمَ حُصُولَ الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ ‏,‏ وَعَنْهُ إذَا رَجَا حُصُولَهُ ‏,‏ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ‏,‏ وَقِيلَ يُنْكِرُهُ وَإِنْ أَيِسَ مِنْ زَوَالِهِ وَخَافَ أَذًى أَوْ فِتْنَةً ‏.‏

وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ‏:‏ إنَّمَا يَجُوزُ الْإِنْكَارُ فِيمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَإِنْ خَافَ أَذًى ‏,‏ وَقِيلَ لَا ‏,‏ وَقِيلَ يَجِبُ ‏.‏

وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَيُخَيَّرُ فِي رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَجِبُ رَفْعُهُ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ ‏,‏ جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي خِلَافًا لِأَكْثَرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قَبِيحٌ وَمَكْرُوهٌ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ ‏(‏أَحَدُهُمَا‏)‏ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ‏(‏وَالثَّانِي‏)‏ إظْهَارُ الْإِيمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ‏:‏ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ ‏,‏ وَصَحَّحَ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ فِي هَذَا فَقَالَ يَكُونُ لَك مَعْذِرَةً ‏,‏ وَهَذَا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى الْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمَنْ قَالَ لَهُمْ ‏{‏تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ

عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ قَالَ الْحَافِظُ‏:‏ وَقَدْ وَرَدَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَبُولِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ ‏.‏

فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ فَقَالَ أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ‏"‏ بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْتَهُوا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَوَامِّ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ ذُكِرَتْ الْفِتْنَةُ فَقَالَ ‏"‏ إذَا رَأَيْتُمْ النَّاسَ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ ‏,‏ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ‏.‏

فَقُمْت فَقُلْت كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك‏؟‏ قَالَ الْزَمْ بَيْتَك ‏,‏ وَامْلِكْ عَلَيْك لِسَانَك وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ ‏,‏ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ ‏,‏ وَعَلَيْك بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِك ‏,‏ وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَامَّةِ ‏"‏ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ قَالُوا لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ ‏,‏ إنَّمَا تَأْوِيلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ ‏.‏

وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ ‏.‏

إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْت لَك فَعَلَى الْعَالِمِ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ الْقَائِمِ بِهِ غَيْرُهُ حَيْثُ أَمِنَ عَلَى مَا مَرَّ ‏,‏ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ‏.‏

 مطلب هَلْ يُشْتَرَطُ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْعَدَالَةُ‏؟‏

وَلَوْ كَانَ ذَا فِسْقٍ وَجَهْلٍ وَفِي سِوَى الَّذِي قِيلَ فَرْضٌ بِالْكِفَايَةِ فَاحْدَدِ ‏(‏و لَوْ كَانَ‏)‏ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْآمِرُ وَالنَّاهِي ‏(‏ذَا‏)‏ أَيْ صَاحِبَ ‏(‏فِسْقٍ‏)‏ بِأَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَوْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ ‏,‏ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ عَدْلًا فِي الْمُعْتَمَدِ ‏,‏ بَلْ الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالْعَدْلُ وَالْفَاسِقُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى ‏.‏

وَإِنَّمَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِلَوْ الْمُفِيدَةِ لِلْخِلَافِ خِلَافًا لِقَوْمٍ اعْتَبَرُوا فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي الْعَدَالَةَ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ قَالَ قَوْمٌ‏:‏ لَا يَجُوزُ لِفَاسِقٍ الْإِنْكَارُ ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِمَا ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ الْكَافِرُ مَمْنُوعٌ مِنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلْطَنَةِ وَالْعِزِّ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ‏:‏ وَلِلْمُمَيِّزِ الْإِنْكَارُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ ‏.‏

نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَالِفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ ‏,‏ بَلْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَأْتَمِرُ بِهِ ‏,‏ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَنْزَجِرُ عَنْهُ ‏.‏

فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَا ‏,‏ فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَالَك أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ‏؟‏ فَيَقُولُ بَلَى كُنْت آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ قِيلَ لِأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْت عُثْمَانَ فَكَلَّمْته ‏,‏ فَقَالَ إنَّكُمْ لَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إلَّا أَنْ أُسْمِعَكُمْ ‏,‏ وَأَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ ‏,‏ وَلَا أَقُولُ لِرَجُلٍ إنْ كَانَ عَلَيٌّ أَمِيرًا أَنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ وَمَا هُوَ قَالَ سَمِعْته يَقُولُ ‏"‏ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ‏"‏ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا شَأْنُك أَلَيْسَ كُنْت تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَيْ عَنْ الْمُنْكَرِ‏؟‏ فَيَقُولُ كُنْت آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الشَّرِّ وَآتِيهِ ‏.‏

وإني سَمِعْته يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْت بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ‏,‏ قُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ‏؟‏ قَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِك الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏"‏ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ الْأَقْتَابُ الْأَمْعَاءُ وَاحِدُهَا قِتْبٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَتَنْدَلِقُ أَيْ تَخْرُجُ ‏.‏

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جُنْدُبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرُقُ نَفْسَهُ ‏"‏ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ مَثَلُ الْفَتِيلَةِ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْبَزَّارُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي فُرُوعِهِ لِبَعْضِهِمْ‏:‏ عَجِبْت لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِ دُمُوعًا وَلَا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى وَأَنْشَدَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ فِي ابْنِ السَّمَّاكِ الْوَاعِظِ‏:‏ يَا وَاعِظَ النَّاسِ قَدْ أَصْبَحْت مُتَّهَمًا إذْ عِبْت مِنْهُمْ أُمُورًا أَنْتَ آتِيهَا كَالْمُلْبِسِ الثَّوْبَ مِنْ عُرْيٍ وَعَوْرَتُهُ لِلنَّاسِ بَادِيَةٌ مِنْ أَنْ يُوَارِيَهَا وَأَعْظَمُ الْإِثْمِ بَعْدَ الشِّرْكِ تَعْلَمُهُ فِي كُلِّ نَفْسٍ عَمَاهَا عَنْ مُسَاوِيهَا عِرْفَانُهَا بِعُيُوبِ النَّاسِ تُبْصِرُهَا مِنْهُمْ وَلَا تُبْصِرُ الْعَيْبَ الَّذِي فِيهَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ لَطَائِفِ الْمَعَارِفِ قَالَ‏:‏ كَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِهِ‏:‏ مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلَا حَتَّى تَعْيَهَا نَفْسُهُ أَوَّلَا يَا قَوْمِ مَنْ أَظْلَمُ مِنْ وَاعِظٍ خَالَفَ مَا قَدْ قَالَهُ فِي الْمَلَا أَظْهَرَ بَيْنَ النَّاسِ إحْسَانَهُ وَبَارَزَ الرَّحْمَنَ لَمَّا خَلَا وَأَنْشَدَ لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ قَوْلَهُ‏:‏ وَبَّخْت غَيْرَك بِالْعَمَى فَأَفَدْتَهُ بَصَرًا وَأَنْتَ مُحْسِنٌ لِعَمَاكَا وَفَتِيلَةُ الْمِصْبَاحِ تَحْرِقُ نَفْسَهَا وَتُضِيءُ لِلْأَعْشَى وَأَنْتَ كَذَاكَا وَذَكَرَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ السَّالِفَةِ‏:‏ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعِظَ النَّاسَ فَعِظْ نَفْسَك ‏,‏ فَإِنْ اتَّعَظَتْ وَإِلَّا فَاسْتَحِ مِنِّي ‏,‏ ثُمَّ أَنْشَدَ‏:‏ وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْشَدَ أَيْضًا‏:‏ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُقَوِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّقْوِيمُ فَابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَيْت عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ وَلَمَّا جَلَسَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ الْوَاعِظُ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الصَّالِحَاتِ فَأَنْشَدَتْهُ‏:‏ يَا وَاعِظًا قَامَ لِاحْتِسَابِ يَزْجُرُ قَوْمَهُ عَنْ الذُّنُوبِ تَنْهَى وَأَنْتَ الْمُرِيبُ حَقًّا هَذَا سَنُّ الْمُنْكَرِ الْعَجِيبِ لَوْ كُنْت أَصْلَحْت قَبْلَ هَذَا عَيْبَك أَوْ تُبْت مِنْ قَرِيبِ كَانَ لِمَا قُلْت يَا حَبِيبِي مَوْقِعُ صِدْقٍ مِنْ الْقُلُوبِ تَنْهَى عَنْ الْغَيِّ وَالتَّمَادِي وَأَنْتَ فِي النَّهْيِ كَالْمُرِيبِ قَالَ فِي اللَّطَائِفِ‏:‏ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما‏:‏ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ ‏,‏ فَقَالَ إنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تَفْضَحَك هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فَافْعَلْ وَإِلَّا فَابْدَأْ بِنَفْسِك ‏,‏ ثُمَّ تَلَا أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَقَالَ تَعَالَى لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏.‏

كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ وقوله تعالى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ‏.‏

فَإِنْ قَلْت‏:‏ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَوْ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ تُعَيِّنُ اعْتِبَارَ عَدَالَةِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ ‏.‏

وَنَحْنُ نَقُولُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا عَدْلًا ‏,‏ وَلَكِنْ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ‏.‏

وَلَوْ لَمْ يَعِظْ النَّاسَ إلَّا مَعْصُومٌ أَوْ مَحْفُوظٌ لَتَعَطَّلَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعَ كَوْنِهِ دِعَامَةَ الدِّينِ ‏,‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إذَا لَمْ يَعِظْ النَّاسَ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ فَمَنْ يَعِظُ الْعَاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مُرُوا النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَتَنَاهَوْا عَنْهُ كُلِّهِ ‏"‏ ‏.‏

وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ‏:‏ إنَّ فُلَانًا لَا يَعِظُ وَيَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ ‏.‏

فَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ‏؟‏ وَدَّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّ أَمْرٍ حَتَّى عَلَى جُلَسَائِهِ وَشُرَكَائِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَعَلَى نَفْسِهِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهَا ‏,‏ لِأَنَّ النَّاسَ مُكَلَّفُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ‏.‏

وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِيمَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا وَخَالَفَهُ بِلَا دَلِيلٍ

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ الْكُبْرَى‏:‏ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ وَلَا عُذْرٍ ‏.‏

كَذَا ذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ‏,‏ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَلْزَمُ كُلَّ مُقَلِّدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَشْهَرِ وَلَا يُقَلِّدَ غَيْرَ أَهْلِهِ ‏,‏ وَقِيلَ بَلَى ‏,‏ وَقِيلَ ضَرُورَةٌ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏:‏ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ ‏,‏ وَعَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ ‏,‏ فَاعِلًا لِلْمُحَرَّمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ‏,‏ وَهَذَا مُنْكَرٌ ‏,‏ قَالَ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ثُمَّ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَلَا حَرَامٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ ‏,‏ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدَ أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ثُمَّ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُ شُفْعَةُ الْجِوَارِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً ‏.‏

أَوْ مِثْلُ مَنْ يَعْتَقِدُ إذَا كَانَ ‏,‏ أَخًا مَعَ جَدٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخٍ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ ‏.‏

وَإِذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ وَحُضُورِ السَّمَاعِ إنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ ‏.‏

فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقُهُ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ ‏,‏ فَمِثْلَ هَذَا مِمَّنْ يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ حِلَّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ ‏,‏ وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ بِحَسَبِ هَوَاهُ مَذْمُومٌ مَجْرُوحٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ ‏,‏ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ‏,‏ وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَفْهَمُهَا وَيَعْلَمُهَا ‏,‏ وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُهُ فَيَرْجِعَ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا ‏,‏ فَهَذَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ ‏,‏ وَفْد نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ ‏.‏

انْتَهَى مُلَخَّصًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَقَدْ رُفِعَتْ فَتْوَى لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ وَالْقُدْوَةِ الْفَهَّامَةِ خَاتِمَةِ الْمُحَقِّقِينَ وَوَاسِطَةِ عِقْدِ الْمُرَجَّحِينَ الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْدَاوِيِّ صَاحِبِ الْإِنْصَافِ رضي الله عنه وَهِيَ‏:‏ هَلْ لِلْحَاكِمِ الْحَنْبَلِيِّ أَنْ يَحْكُمَ فِي مَسْأَلَةٍ الْخِلَافُ فِيهَا مُطْلَقٌ بِالصِّحَّةِ تَارَةً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَبِالْبُطْلَانِ أُخْرَى عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ‏؟‏ أَجَابَ رضي الله عنه‏:‏ أَمَّا الْحُكْمُ بِالتَّشَهِّي فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَلْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ قَالَ بِهِ ‏,‏ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِالتَّشَهِّي ‏,‏ وَهَذَا لَا يَسُوغُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ‏,‏ وَإِنَّمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ سَاغَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ ‏,‏ ثُمَّ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ عَمِلَ بِالثَّانِي ‏,‏ وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالتَّشَهِّي فَزَنْدَقَةٌ ‏,‏ وَلَا يَصِحُّ حُكْمُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ الْقَضَاءَ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ وَبِمِثْلِهِ أَفْتَى الشبشيني ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏